قال تشرشل"لاتربح الحروب بعملیات إجلاء"، هذه وجهة نظر رئیس وزراء بریطانیا والقائد العام لقواتها فی الحرب العالمیة الثانیة، بخصوص إجلاء القوات البریطانیة والفرنسیة التی حاصرتها القوات الألمانیة فی میناء"دانكیرك" الفرنسی.
القصة الحقیقیة
وجهة نظر تشرشل ك" خبیر وسیاسی حكیم" صحیحة من الناحیة العسكریة، ولكن من الناحیة الإنسانیة فإن ما جرى فی المیناء الفرنسی هو مكسب عسكری، على الرغم من الخسائر التی رافقت عملیة الإجلاء الشهیرة تلك، فقد تمثلت تلك الخسائر ب 297 قطعة بحریة و106 طائرات و108.111 جندی و2.472 مدفع و84.427 آلیة عسكریة و77.318 طن من الذخیرة.
ولكن بالمقابل تم انقاذ 198.229 جندی بریطانی و139.997 جندی فرنسی، وبالتالی فإن الربح كان أعلى من معدل الخسارة فی هذه المعركة التی حصلت بین 26/5 و 4/6 من عام 1940 فی مدینة "دانكیرك" الفرنسیة.
ومن المعروف أن قوات "هتلر"كانت قد اندفعت، فی الأول من سبتمبر عام 1939 نحو بولندا، باعتبارها المنطقة الرخوة بین أوروبا الشرقیة وأوروبا الغربیة، فوجهت بریطانیا انذارا ألمانیا بسحب قواتها من بولندا، وإذ تجاهلت الدولة النازیة تلك الإنذارات فقد أعلنت كل من بریطانیا وفرنسا الحرب على ألمانیا، وتدفقت القوات البریطانیة إلى فرنسا للوقوف إلى جانبها وفرض حصار على الحدود الفرنسیة الألمانیة، ولكن بعد أن اندفعت القوات الألمانیة_بعد ثمانیة أشهر_ نحو كل من بلجیكا وهولندا، بدت قوات الحلفاء كما لو أنها قد وقعت فی الفخ.
ذلك أن هذه القوات التی اطمأنت إلى أن الحدود الفرنسیة الألمانیة محمیة بالحواجز والدفاعات العسكریة فقد ظنت أن الغابات الفرنسیة الكثیفة ستشكل مصدا منیعا أمام تقدم القوات الألمانیة، غیر أن هذه القوات اقتحمتها وزحفت نحو قوات الحلفاء من الخلف ودفعتها إلى التوجه نحو بلجیكا، وهناك واجهتها قوات ألمانیة متهیأة لصدها فاضطرت إلى التراجع، فلم یكن أمامها غیر اللجوء إلى میناء "دانكیرك" الفرنسی.
أحداث الفیلم
وفی هذا المیناء تدور أحداث الفیلم الذی حمل عنوان "دانكیرك" واستغرق ساعة و46 دقیقة، من إخراج الأمریكی "كریستوفر نولان" المولود فی لندن عام 1970، والذی حققت أفلامه أكثر من 4 ملیارات دولار، وترشح لجوائز عالمیة عدیدة، منها 26 مرة لجائزة الأوسكار.
معروف عن نولان أنه لایعتمد خطا سردیا متسقا فی تقدیم أحداث أفلامه، إنه یتقافز، ویجعل الأحداث أحیانا تتداخل، بما قد یربك المشاهد ویجعل الأحداث تتشابك زمنیا أمامه، وبما یدفعه إلى المراجعة مرات عدیدة، وهذا ما یحدث فی فیلم "دانكیرك".
فی هذا الفیلم نجد أنفسنا أمام عمل سینمائی ملحمی یجسد فظاعة الحروب ونتائجها، من طراز - مثلا- ملحمیة فیلم "القیامة الآن" ل "فرنسیس كوبولا" وفیلم "انقاذ الجندی رایان" ل"ستیفن سبیلبیرغ"، ولكن إذا كانت مساحة أحداث فیلم "القیامة الآن" هی غابات فیتنام ذات الملامح الخضراء الكثیفة، وأحداث فیلم "انقاذ الجندی رایان" هی مساحات المدینة الرمادیة المدمرة، فإن ملامح أحداث فیلم "دانكیرك" ملامح عائمة فی البحر، غیر محددة الملامح.
تفاصیل نقدیة
حتى البطولة فی الفیلم عائمة، لیس ثمة بطل محدد فی الفیلم، البطولة جماعیة وعائمة، فحتى الممثل البریطانی الرائع" مارك ریلانس" الحائز على جائزة أوسكار عن فیلم "جسر الجواسیس"، فظهر كأی ممثل عادی، ذلك أن دور الممثلین فی الفیلم، جمیعا، كان دورا أدائیا ولیس ابداعیا، لأن ملامح الجمیع كانت متشابهة فی ظل الرعب.
ولكن التصویر، انفرد بجانب من البطولة فی لقطات ساحرة، إنسانیا وجمالیا، ولكنها بدت خارج سیاق السیناریو، وبدت كنوع من التجمیل للفیلم، لذلك فإنها برزت فی الإعلانات عن الفیلم وشدت المشاهد، أما الموسیقى فبدت وكأنها موضوعة لفیلم آخر.
یبدو أن النقاد قد روجوا للفیلم اعتمادا على الإعلان الدعائی الناجح الباهر للفیلم، ولكن آراءهم انقسمت بعد أن عرض كاملا، غیر أن الجمیع متفق على أن الفیلم غرد خارج أفلام "نولان"، بقصد ترك بصمة مختلفة عن سیاق سرده السینمائی، وهذا تبریر یغطی – إعلامیا- على عیوب الفیلم.
وبعد مرور زمن معین من الفیلم تجد أن ملحمیة الفیلم مشتتة، لكن منقذها الوحید هو الواقعیة وكارثیة الحدث الذی عمقه التصویر البارع. فقد ركز على عملیة الإخلاء كقصة فیلم، و ك"هم" للجیش البریطانی الذی أزاح فكرة النصر جانبا، ولم یتطرق الفیلم للغموض الذی اكتنف موقف هتلر "الذی أهمل هذه المعركة وأمر جنوده بالتوقف عن الزحف".
الفیلم التقط حدثا منسیا مثیرا، من الناحیة التاریخیة، وقد یترشح لأوسكار عام 2018. إلا أنه یستحق المشاهدة بامتیاز، ولكن المشاهدة الدقیقة غیر المأخوذة بالعاطفة وعد الانجرار وراء الطروحات "النقدیة" المأجورة التابعة لمواقع تجاریة تروج للفیلم.
الفیلم یعتمد السیناریو المشتت، الذی كتبه المخرج، مشتت من حیث إیصاله معلومة تاریخیة وتجسیدها سینمائیا بطریقة یقدم المخرج فیها نفسه كمتفنن سینمائیا متنسایا المتلقى الذی یتوق إلى المعرفة على ید المخرج.
URL تعقيب: https://www.ansarpress.com/arabic/7843
الكلمات: